أصول التنظيم من حديث الهجرة / باب أحمد محمد القصري
بينا أنا أطالع الجامع الصحيح وأتفيأ ظلال الهجرة استوقفني البناء التنظيمي المحكم للرحلة الميمونة، ووضوح الخطة وتكامل وتوزع الفريق وتحديد اختصاصاته، والتدفق الانسيابي المنطقي للأعمال، ومراعاة أدق التفاصيل والتحوط للمخاطر، والرصد المبدئي للاحتياجات والموارد، وتوفير خدمات الدعم اللوجستي، مع جمال وجلال وعظمة وكمال الحدث في بعديه النظري والإجرائي، ورغم استعادة سنوات الدراسة والخبرة وعصف الذهن لم أجد أصلا أو مبدأ مستقرا في التراتيب الإدارية والتنظيمية والاستراتيجية يقتضي الحدث إعماله إلا أعمل ولم يهمل.
أول ما استوقفني= القراءة الواعية “لبيئة المشروع” الداخلية والخارجية، بتحدياتها وفرصها ومهدداتها، وارتياد الآفاق البديلة، فمع أن اختيار المدينة كان وحيا من الله عز وجل (أريت دار هجرتكم) إلا أن النصوص تظهر جانبا من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبدائل الممكنة، وجمع المعلومات عنها من خلال الوفود، وفور حسم الوجهة بدأت وظيفة الإعلام والتعبئة، إذ أوفد النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم تبعهم عمار وبلال وسعد، ثم عمر بن الخطاب في عشرين رجلا، فعملوا على الاستطلاع وتهيئة الأرضية اللازمة للحدث الأكبر = مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع اللبنات الأولى لبناء دولة النبوة.
ثم كان قرار التجميع برجوع (عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة)، ثم بدأت أولى خطوات بناء “فريق الرحلة” بتعيين الصديق، وكان (تجهز قِبَلَ المدينة)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده أربعة أشهر)، فحبس النفس هنا أبلغ تعبير عن متانة الأسس التي بني عليها الفريق، وأربعة أشهر تعني قيمة الزمن في الخطة وأهميته، فكل خطوة محسوبة، ولا مجال للاستعجال والسير على غير هدى.
ثم كانت اللحظة الفارقة للانطلاقة الكبرى ترويها لنا أمنا الصديقة عائشة: (بينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها (إدارة الطوارئ)، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم)، فلا تسأل عن السعادة الغامرة بوسام (ثاني اثنين)، ولا عن دموع الفرح التي ذرفتها عينا الصديق الرقيق البكاء، الذي يزن إيمانه إيمان أهل الأرض.
ثم تسارعت “الخطوات التنفيذية” للرحلة بدءا بتجهيز الزاد والراحلة، وكانت روح المبادرة والإيثار حاضرة في قول الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم: (خذ – بأبي أنت يا رسول الله – إحدى راحلتي هاتين)، لكن النبي صلى الله عليه اشترط دفع الثمن، تماما كما فعل مع بني النجار (ثامنوني بحائطكم)، وهو درس في “المؤسسية” واستقلال الذمة المالية للمشروع، ونفي شبهة الملك أو التبعية لأي من الشركاء والمؤسسين.
ثم كان الحضور الفاعل لجهود المرأة وأدائها ولمساتها الرقيقة الحانية، بتوظيفها في أعمال تراعي خصوصيتها وتحفظ عليها عفتها ودينها، وتجنبها الابتذال بمخالطة مجتمع الرجال، تقول عائشة: (جهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين)، وفي عبقرية ذات النطاقين من الجمال والسمو والرقة ما لا تحيط به الكلمات، ولا يصدر مثل هذا “الإجراء” إلا عن امرأة صادقة وفية مرهفة الإحساس، كما أنه عنوان ريادة وذكاء وقدرة خارقة على الإنجاز بأيسر وأقل “الموارد”.
(ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن)، وهي “المؤهلات المثالية” لشاغلي وظيفة “الاستعلامات والرصد”، لذا كان (يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام)، وبهذه التغطية الفعالة والرصد المنتظم للموقف أمكن اتخاذ القرارات وفق معطيات سليمة، وعملية اتخاذ القرار جوهر الإدارة.
وكان مولى الصديق عامر بن فهيرة كابنه عبد الله عضوا فاعلا في مهام الدعم والمساندة، إذ كان (يرعى عليهما منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء … يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث)، ولم يكن اختيارهما على أساس القرابة أبدا، وإنما مراعاة لمتطلبات شغل الوظيفة (الأمانة – الكفاءة – الولاء)، ودليل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر استأجرا (رجلا من بني الديل هاديا خريتا ماهرا، وهو على دين كفار قريش)، لكنهما (أمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال)، وهذا أبلغ تشريع لنبذ المحسوبية والفساد، وتجريم المحاصصات السياسية وتعيينات الترضية التي لا تخضع للمعايير الفنية والموضوعية، ثم إن هذا الإجراء أصل في الاستفادة من الخبرات الأجنبية المأمونة في الجوانب الفنية عند الحاجة، بشرط استيعابها ضمن الخطة العامة، وعدم منحها صلاحية اتخاذ قرارات استراتيجية قد تتعارض وفلسفة المشروع وثوابته.
وينطلق الموكب المبارك وفق الخطة المرسومة صبح ثلاث، معه عامر بن فهيرة والدليل فيأخذ طريق السواحل، لكن اكتمال العناصر المادية للخطة لا يكفي للنجاح، ما لم يكن عون وتأييد ممن له الخلق والأمر، فقد رمق سراقة بن مالك موكب الهجرة من بعيد، فطمع بدية رصدتها قريش لمن يظفر بمطلوبها الأول، يقول سراقة: (أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها… فركبت فرسي … حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها … فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم)، فانقلب الخطر أمنا، والعدو صديقا، إكراما وتأييدا للبني صلى الله عليه وسلم، وإيذانا بالميلاد الجديد.
وحين طلع البدر من ثنيات الوداع، وأشرقت كل أرجاء المدينة، وانجفل الناس لاستقبال الوفد الكريم، لم تُنس الوجوه المستبشرة ولا أهازيج الفرح الرسولَ القائد صلى الله عليه وسلم مشاركة أصحابه شؤونهم وشجونهم، فبدأ من لحظاته الأولى قرارات التأسيس والبناء والمؤاخاة، وشارك في أعمال بناء المسجد، وطفق ينقل مع أصحابه اللَّبِن بيديه الشريفتين، بل وينشد معهم ويباسطهم، ويربيهم وجدانيا: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر، ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخره *** فارحم الأنصار والمهاجره.